فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الظاهر أنه مجرور عطفًا على السماوات والأرض.
ويجوز أن يكون مرفوعًا، عطفًا على خلق، على حذف مضاف، أي وخلق ما بث.
وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور، وإن كان ملتبسًا ببعضه.
كما يقال: بنو فلان صنعوا كذا، وإنما صنعه واحد منهم، ومنه يخرج منهما، وإنما يخرج من الملح، أو يكون من الملائكة.
بعض يشمي مع الطيران، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي، أو يكون قد خلق السماوات حيوانا يمشي مع مشي الإناس على الأرض، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب.
وقد يقع أحيانًا، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء.
وقال مجاهد: {وما بث فيهما من دابة}: هم الناس والملائكة.
وقال أبو علي: هو على حذف مضاف، أي وما بث في أحدهما.
وقرأ الجمهور: فيهما بالفاء، وكذا هي في معظم المصاحف.
واحتمل ما أن تكون شرطية، وهو الأظهر، وأن تكون موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو، وهي موجودة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر في رواية، وشيبة: بما بغير فاء، فما موصولة، ولا يجوز أن تكون شرطية؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر، وأجازت ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء.
وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا، والمصيبة: الرزايا والمصائب في الدنيا، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه، وأنه تعالى يعفو عن كثير، ولا يجازي عليه بمصيبة.
وفي الحديث: «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال؛ إن أحبه إليّ أحبه إلى الله، وهذا مما كسبت يداي.
ورؤي على كف شريح قرحة، فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يداي.
وقال الزمخشري: الآية مخصوصة بالمجرمين، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب المجرم ويعفو عن بعض.
فأما من لا جرم له، كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره، فللعوض الموفي والمصلحة وعن علي: هذه أرجى آية للمؤمنين.
وقال الحسن: {من مصيبة}: أي حد من حدود الله، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيديكم.
{ويعفوا} الله {عن كثير}، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه.
{وما أنتم بمعجزين}: أنتم في قبضة القدرة.
وقيل: ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله: {اليوم تجزي كل نفس بما كسبت} ولاشتراك الصالح والطالح فيهما، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون.
وفي الحديث: «خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ولأن الدنيا دار التكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء، وليس الأمر كذلك.
وهذا القول يؤخره نصوص القرآن، كقوله تعالى: {فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا} الآية. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي: كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم.
قال مقاتل: لطيف بالبارّ، والفاجر حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم.
قال عكرمة: بارّ بهم.
وقال السدي: رفيق بهم.
وقيل: حفيّ بهم.
وقال القرطبي: لطيف بهم في العرض، والمحاسبة.
وقيل غير ذلك.
والمعنى: أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم، ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا، وهو: معنى قوله: {يَرْزُقُ مَن يَشَاء} منهم كيف يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا {وَهُوَ القوى} العظيم القوّة الباهرة القادرة {العزيز} الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} الحرث في اللغة: الكسب، يقال: هو يحرث لعياله، ويحترث، أي: يكتسب.
ومنه سمي الرجل حارثًا، وأصل معنى الحرث: إلقاء البذر في الأرض، فأطلق على ثمرات الأعمال، وفوائدها بطريق الاستعارة والمعنى: من كان يريد بأعماله، وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وقيل: معناه: يزيد في توفيقه، وإعانته، وتسهيل سبل الخير له {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من كان يريد بأعماله، وكسبه ثواب الدنيا، وهو: متاعها، وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا، وقسم له في قضائنا.
قال قتادة: معنى {نُؤْتِهِ مِنْهَا}: نقدّر له ما قسم له كما قال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء} [الإسراء: 18]، وقال قتادة أيضًا: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلاّ الدنيا.
قال القشيري: والظاهر أن الآية في الكافر، وهو: تخصيص بغير مخصص.
ثم بيّن سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة، فقال: {وَمَا لَهُ في الأخرة مِن نَّصِيبٍ}؛ لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا، والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار، والهمزة لاستفهام التقرير والتقريع، وضمير {شرعوا} عائد إلى الشركاء، وضمير {لهم} إلى الكفار.
وقيل: العكس، والأوّل أولى.
ومعنى {مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}: ما لم يأذن به من الشرك، والمعاصي {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل}، وهي: تأخير عذابهم حيث قال: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا، فعوجلوا بالعقوبة، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين، والمشركين، أو إلى المشركين، وشركائهم {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: المشركين، والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا، والآخرة.
قرأ الجمهور: {وإن الظالمين} بكسر الهمزة على الاستئناف.
وقرأ مسلم، والأعرج، وابن هرمز بفتحها عطفًا على {كلمة الفصل}.
{تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ} أي: خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات، وذلك الخوف، والوجل يوم القيامة {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج، أي: وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا، أو لم يشفقوا، والجملة في محل نصب على الحال.
ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين، فقال: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات في روضات الجنات} روضات جمع روضة.
قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين الواو، ولغة هذيل فتحها، والروضة: الموضع النزه الكثير الخضرة، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم، وروضة الجنة: أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها {لَهُم مَا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} من صنوف النعم، وأنواع المستلذّات، والعامل في {عند ربهم} {يشاءون}، أو العامل في {روضات الجنات}، وهو: الاستقرار، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر للمؤمنين قبله، وخبره الجملة المذكورة بعده، وهي {هُوَ الفضل الكبير} أي: الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ الذي يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ} إلى الفضل الكبير، أي: يبشرهم به.
ثم وصف العباد بقوله: {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، فهؤلاء الجامعون بين الإيمان، والعمل بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه هم: المبشرون بتلك البشارة.
قرأ الجمهور: {يبشر} مشدّدًا من بشر.
وقرأ مجاهد، وحميد بن قيس بضم التحتية، وسكون الموحدة، وكسر الشين من أبشر.
وقرأ بفتح التحتية، وضم الشين بعض السبعة، وقد تقدّم بيان القراءات في هذه اللفظة.
ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه، أمره بأنه يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثوابًا منهم، فقال: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: قل يا محمد: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا، ولا نفعًا {إِلاَّ المودة في القربى} هذا الاستثناء يجوز أن يكون متصلًا، أي: إلاّ أن تودّوني لقرابتي بينكم، أو تودّوا أهل قرابتي. ويجوز أن يكون منقطعًا.
قال الزجاج: {إلاّ المودّة} استثناء ليس من الأوّل، أي: إلاّ أن تودّوني لقرابتي، فتحفظوني، والخطاب لقريش.
وهذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك، والشعبي، فيكون المعنى على الانقطاع: لا أسألكم أجرًا قط، ولكن أسألكم المودّة في القربى التي بيني وبينكم، ارقبوني فيها، ولا تعجلوا إليّ، ودعوني والناس، وبه قال قتادة، ومقاتل، والسدّي، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيئاتي.
وقال سعيد بن جبير، وغيره: هم: آل محمد، وسيئاتي ما استدل به القائلون بهذا.
وقال الحسن، وغيره: معنى الآية: إلاّ التودّد إلى الله عزّ وجلّ، والتقرّب بطاعته.
وقال الحسن بن الفضل: ورواه ابن جرير عن الضحاك: إن هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت بمكة، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله بمودّته، فلما هاجر أوته الأنصار ونصروه، فأنزل الله عليه: {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين} [الشعراء: 109]، وأنزل عليه {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} [سبأ: 47].
وسيئاتي في آخر البحث ما يتضح به الثواب، ويظهر به معنى الآية إن شاء الله {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أصل القرف الكسب، يقال: فلان يقرف لعياله، أي: يكتسب.
والاقتراف: الاكتساب، مأخوذ من قولهم رجل قرفة: إذا كان محتالًا.
والمعنى: من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسنًا بمضاعفة ثوابها.
قال مقاتل: المعنى: من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسنًا نضاعفها بالواحدة عشرًا فصاعدًا.
وقيل: المراد بهذه الحسنة هي: المودّة في القربى، والحمل على العموم أولى، ويدخل تحته المودّة في القربى دخولًا أوّليًا {إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين.
قال قتادة: غفور للذّنوب شكور للحسنات.
وقال السدّي: غفور لذنوب آل محمد.
{أَمْ يَقولونَ افترى عَلَى الله كَذِبًا} أم هي المنقطعة، أي: بل أيقولون: افترى محمد على الله كذبًا بدعوى النبوّة، والإنكار للتوبيخ.
ومعنى افتراء الكذب: اختلاقه.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا، فقال: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} أي: لو افترى على الله الكذب لشاء عدم صدوره منه، وختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله شيئًا مما كذب فيه كما تزعمون.
قال قتادة: يختم على قلبك، فينسيك القرآن، فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية.
وقال مجاهد، ومقاتل: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم.
وقيل: الخطاب له، والمراد الكفار، أي: إن يشأ يختم على قلوب الكفار، ويعاجلهم بالعقوبة، ذكره القشيري.
وقيل: المعنى: لو حدّثتك نفسك أن تفتري على الله كذبًا لطبع على قلبك، فإنه لا يجترئ على الكذب إلاّ من كان مطبوعًا على قلبه، والأوّل أولى، وقوله: {وَيَمْحُ الله الباطل} استئناف مقرّر لما قبله من نفي الافتراء.
قال ابن الأنباري: {يختم على قلبك} تامّ، يعني: وما بعده مستأنف.
وقال الكسائي: فيه تقديم، وتأخير، أي: والله يمحو الباطل.
وقال الزجاج: أم يقولون: افترى على الله كذبًا تامّ.
وقوله: {وَيَمْحُ الله الباطل} احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لو كان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم باطلًا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين {وَيُحِقُّ الحق} أي: الإسلام، فيبينه {بكلماته} أي: بما أنزل من القرآن {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} عالم بما في قلوب العباد، وقد سقطت الواو من (ويمحو) في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي.
{وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} أي: يقبل من المذنبين من عباده توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي، واقترفوا من السيئات، والتوبة: الندم على المعصية، والعزم على عدم المعاودة لها.
وقيل: يقبل التوبة عن أوليائه، وأهل طاعته.
والأوّل أولى، فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم، وكافرهم إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية، وعزيمة صحيحة {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} على العموم لمن تاب عن سيئته {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من خير، وشرّ، فيجازي كلا بما يستحقه.
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف: {تفعلون} بالفوقية على الخطاب.
وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأن هذا الفعل وقع بين خبرين {وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الموصول في موضع نصب، أي: يستجيب الله الذين آمنوا، ويعطيهم ما طلبوه منه، يقال: أجاب، واستجاب بمعنى.
وقيل المعنى: يقبل عبادة المخلصين.
وقيل: التقدير، ويستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: كالوا لهم.